سلسة آداب الفتى : مفتاح العبادة

مفتاح العبادة
تأليف : صبري سلامة شاهين
دار بلنسية
---

بسم الله الرحمن الرحيم
ياسر: هل لك رغبة يا عبد العزيز في أن تشارك معنا؟
عبد العزيز: في أي شيء أشارككم فيه؟
ياسر: لقد كَوَّنَّا مجموعة أنا وسعد وفهد وأحمد وعليّ لعمل فريق كشافة.
عبد العزيز: وماذا تعملون؟
ياسر: كل واحد منا يؤدي دورًا ... فمنا من يسمعنا شيئًا من أشعار العرب، ومنا من يسأل ويناقش، وتوجد بعض الجوائز الرمزية، ومنا من يعرض النكتة للهو والترفيه.
عبد العزيز: وماذا تريدون مني؟
ياسر: أن تشارك معنا وتقدم فقرة مفيدة.
عبد العزيز: أخشى ما أخشاه يا ياسر أن يكون اجتماعكم هذا قائمًا على اللغو واللهو والعبث.
ياسر: لا يا عبد العزيز؛ اجتماعنا هذا بريء مما تقول؛ وإن كان فيه لهو فهو لهو مباح.
عبد العزيز: إن كان الأمر على ما ذكرت فاعرض عليَّ بعضًا مما سيكون في هذا الاجتماع.
ياسر: حسنًا؛ ففي حقيبتي نموذجًا سأريك إياه.
يفتح ياسر حقيبته ويقلب الأوراق، ويأخذ مجموعة منها ويعطيها لعبد العزيز قائلاً:
- خذ هذا النموذج يا عبد العزيز واطَّلع عليه.
عبد العزيز يقلب الأوراق ويقول لياسر:
هذه الفقرة جيدة...
أول من ولد في المدينة من المهاجرين.
أول من رمى بسهم في سبيل الله.
آخر الصحابة موتًا في الكوفة. وهكذا.
ياسر: لمن يجيب على هذه الأسئلة جائزة طيبة.
عبد العزيز: أما فقرة الشعر، فالحقيقة ليس لي في الشعر حاجة.
طرق على الباب فيقول ياسر:
- من الطارق؟
عماد: أنا عماد يا ياسر.
يفتح الباب ويدخل عماد ويلقي عليهما تحية الإسلام.
- السلام عليكم ورحمة الله يا إخوان.
ياسر وعبد العزيز: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
عماد: ما هذه الورقات التي بيدك يا عبد العزيز؟
عبد العزيز: هذا نموذج لبرنامج التسلية يقوم به ياسر وبعض إخوانه.
عماد: أَسْمِعْنا ما كنت تقرأ.
ياسر: نعم أسمعنا هذه الأشعار الجميلة.
عبد العزيز:
وإن امرأ في بلدةٍ نصف قلبه

ونصف بأخرى غيرها لصبور

وددت من الشوق المبرح أنني

أعار جناحي طائر فأطير

فما في نعيم العيش بعدك لذة

ولا لسرور لست فيه سرور

عماد في غضب وعصبية يقول:
ما هذا يا جماعة؟! شعر غزل ومجون!!
أستغفر الله، نعم أستغفر الله. أين نعيم الجنة؟ وأين لذة الطاعة؟! سبحان الله سبحان الله!!
ياسر: لِمَ هذا الغضب وهذه العصبية يا عماد؟!
عماد: لا يجوز الشعر بأي حال؛ نعم لا يجوز؛ فالشعراء يتبعهم الغاوون.
ياسر: مالك يا عماد؟! لقد كان حسان بن ثابت يقول الشعر ورسول الله  يسمعه.
عماد: اتق الله يا ياسر ... وهل كان حسان رضي الله عنه يقول مثل هذا الكلام؟!
عبد العزيز: لقد أردت النظر في هذه الورقات ثم عرضها على جدي قبل أن أشارك معهم.
عماد: وماذا بعد ذلك؟
عبد العزيز: هذه الفقرة تعرض فيها النكتة للمرح والضحك والتسلية.
ياسر: هذه الفقرة من ألطف الفقرات بل وأحبها إلى نفوس الشباب تبعث فيهم البسمة وتطرد عنهم العبوس، اقرأ يا عبد العزيز، اقرأ.
عبد العزيز: ذهب نحويٌّ إلى صديق له فجاء بابه ووجد ابنه، فخاف النحوي أن يخطئ ويلحن فقال لابن صديقه: هل يوجد أباك. أبيك. أبوك؟ فرد عليه ابن صديقه وخشي هو الآخر أن يخطئ فقال له: لا ... لي ... لُو.
ضحك ياسر وعبد العزيز بينما أنكر عليهما عماد قائلاً:
- أعوذ بالله ... أعوذ بالله ألم تعلموا يا جماعة بقول رسول الله : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساؤه يهوي بها أبعد من الثريا».
ياسر: لماذا هذا التعقيد يا عماد؟! دعنا يا أخي نمرح ونلهو.
عماد: تُسمَّي إنكاري للمنكر تعقيدًا! لقد صدق رسول الله  وهو يعظ أصحابه حين قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا». سكت عماد قليلاً، ثم قال:
- تضحكون بملء أفواهكم وأنتم لا تدرون أين يكون مصيركم!!
عبد العزيز: يعلم الله يا عماد أني كنت غير مطمئن؛ ولكن لا أدري كيف نسيت نفسي وتماديت مع ياسر في الضحك.
عماد: استغفر الله يا عبد العزيز وتب إليه.
عبد العزيز: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله العظيم وأتوب إليه؛ أنا أقترح أن نذهب إلى جدنا ليفصل في هذا الأمر.
عماد: نعم نذهب إليه.
عبد العزيز: هيا يا ياسر ... هيا يا عماد.
عماد وياسر: هيا.
وقع أقدام على الأرض، ثم طرق على الباب.
وصوت الجد: تفضل، ادخل، تفضل.
يفتح الباب ويدخل الأخوة الثلاثة على جدهم قائلين:
- السلام عليكم ورحمة الله.
الجد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أهلاً وسهلاً ومرحبًا.
عماد: هل الوقت مناسب للجلوس معك، ومناقشتك في أمر ضروري؟
الجد: نعم يا أولادي، نعم ... الوقت مناسب جدًا فماذا عندكم؟
عماد: لقد تعرّف ياسر على بعض الأصدقاء الذين يُنظمون لقاءات ومقابلات كل فترة.
الجد: وماذا في هذه المقابلات واللقاءات؟
ياسر: نلعب الكرة، ونقيم مسابقات ثقافية، ونتناول طعام العشاء.
الجد: أما اجتماعكم على طعام العشاء فهذا أمر جيد، واللعب بالكرة إن زاد على حده فلا، وإن كان على فترات متباعدة للتنشيط ودفع الملل والسآمة فلا بأس به، أما المسابقات فماذا فيها؟
عماد: فيها لغو وباطل وكذب.
الجد: ماذا يا ولدي!!
عماد: نعم يا جدي لو سمعت ما قالوه فبئس قولهم:
فما في نعيم العيش بعدك لذة

ولا لسرور لست فيه سرور

الجد: الشعر يا أولادي كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح.
عماد: ولو سمعت النكت بما فيها من كذب!!
الجد: لقد كان رسول الله  يمزح مع أصحابه، ولا يقول إلا حقًّا وصدقًا؛ أما الذي يكذب ليضحك الناس ويل له ثم ويل له.
عبد العزيز: لقد حذّرت ياسر خشية أن يكون اجتماعهم هذا قائمًا على اللغو واللهو فأخبرني بأنه لهو مباح.
ياسر: نعم يا جدي ... لهو مباح لا نغتاب ولا ننم ولا نسب.
الجد: الشرع يا ولدي هو الذي يحكم على اللهو بأنه مباح أو غير مباح.
ياسر: يا جدي اجتماعنا هذا بريء من المخالفات الشرعية إن شاء الله.
عماد: بل قائم على المخالفات.
ياسر: أنت تبالغ يا عماد؛ نعم أنت تبالغ.
عماد: أين نعيم الجنة؟ وأين لذة الطاعة؟ بل ما هو سرور أهل الجنة وهم في الجنة؟!
الجد: نعم يا ياسر ... لقد صدق أخوك عماد فيما قاله.
عبد العزيز: من أجل ذلك جئناك لنعظ أخانا ياسرًا فيما هو مقدم عليه.
الجد: لقد قال الله – تعالى – يا ولدي: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.
وقال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.
عماد: وقال رسول الله  لمعاذ: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».
عبد العزيز: وقال : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار».
الجد: نعم يا أحبابي، وما أجمل قوله : «عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمَّل الخلائق بمثلهما».
عماد: ولقد قال أيضًا : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
الجد: وقال أيضًا يا ولدي: «إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلمت كُتب لك أو عليك».
عبد العزيز: نعم؛ إذا حافظ الواحد منا على لسانه سلم ونجا، وصدق رسول الله  القائل: «من صمت نجا».
الجد: بل إن كثرة الكلام تذهب بالوقار، فعليكم بالصمت.
ياسر: وكيف نتعلم الصمت؟
الجد: لقد تعلَّم رجل من السلف الصمت أربعين سنة بحصاةٍ كان يضعها في فمه، ولا ينزعها إلا عند الأكل أو الشرب أو النوم.
ياسر: وهل توجد طريقة أخرى غير هذه؟
الجد: عوَّد نفسك السكوت؛ فمن اعتاد شيئًا صار طبعًا فيه؛ لقد قال أحد الصالحين: ربما أردتُ أن أتكلم بكلام حسن فأسكت؛ أريد أن أعوَّد نفسي السكوت.
عبد العزيز: لقد قيل يا جدي: إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب.
الجد: ينبغي أن تكون العبارة هكذا: إن كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.
عماد: نعم ... إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه.
الجد: لقد قيل لمالك بن دينار: يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
ياسر: وهل توجد طريقة أخرى لتعليم الصمت؟
الجد: الاستمرار في التعليم وعدم اليأس؛ قال أحد الصالحين: أمرٌ أنا أطلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه ولست بتاركه. قيل له: ما هو؟! قال: الصمت عمَّا لا يعنيني.
عماد: من كثر كلامه وضحكه ومزاحه قلَّت هيبته.
عبد العزيز: ورضي الله عن عمر الفاروق القائل: من مزح استُخِفَّ به.
الجد: لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب.
عماد: طوبي لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله.
عبد العزيز: لقد سئل رسول الله  عن النجاة فقال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك».
الجد: قال معاذ لرسول الله : أوصني. فقال له: «اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله». قال: «هذا» وأشار بيده إلى لسانه.
عماد: من أجل ذلك قال رسول الله : «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة».
الجد: وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
ياسر: وهل توجد طريقة أخرى لتعليم الصمت؟
الجد: نعم يا ولدي ملازمة من يحفظ لسانه.
قال رجل لابنه: الزم عبد الملك بن أبجر فتعلّم منه توقيه الكلام فما أعلم بالكوفة أشد تحفظًا للسانه منه.
عماد: وهل من نماذج تكون لنا أسوة نقتدي بها؟
الجد: قد كان رسول الله  طويل الصمت قليل الكلام.
عماد: يكفي أن يكون رسول الله  قدوة لنا؛ ولكن احك لنا بعضًا من سير الصالحين نستأنس بها.
الجد: قال خارجة بن مصعب: صحبتُ ابن عون ثنتي عشرة سنة فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون.
عبد العزيز: وهل من نموذج آخر؟
الجد: قال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بطول الصمت وسخاء النفس وكثرة الصلاة.
ياسر: وهل لنا من نموذج آخر.
الجد: قال جارٌ لضيغم بن مالك: ما سمعت أبا مالك يذكر من الشعر إلا بيتًا واحدًا.
قد يَخْزِنُ الورع التقيُّ لسانهُ

حذر الكلام وإنه لمفوَّه

ياسر: ما زلت في شوق لسماع أخبار هؤلاء الصالحين.
الجد: قال أبو عبيدة: ما رأيت رجلاً قط أشد تحفظًا في منطقة من عمر بن عبد العزيز. وكذا الربيع بن خثيم لم يتكلم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسًا وقلمًا؛ فكلما تكلم بكلمة كتبها ثم يحاسب نفسه عند المساء.
عماد: وصدق القائل: إن طول الصمت مفتاح العبادة.



***